فصل: الخبر على إجازة أمير المسلمين ثانية وما كان فيها من الغزوات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس وما كان على بقية ذلك من الأحداث:

لما قفل السلطان أمير المسلمين من غزاته الجهادية وتم صنع الله لديه في ظهور الإسلام على يده واعتزاز أهل الأندلس بفيئته راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه وحسم أدواء الفساد في دولته شفعت مواهب السعادة وأجملت عوائد الصنع وذلك أن صبابة بني عبد المؤمن وفلهم لما فروا من مراكش عند الفتح لحقوا بجبل تينملل جرثومة أمرهم ومنبعث دعوتهم وملاحد خلفائهم وحضرة سلفهم ودار إمامهم ومسجد مهديهم كانوا يعكفون عليه متيمنين بطيره ملتمسين بركة زيارته ويقدمون ذلك أمام غزواتهم قرية بين يدي أعمالهم يعتمدونها من صالح مساعيهم فلما خلص الفل إليه اعتصموا بمعقله وآووا إلى ركونه ونصبوا للقيام بأمرهم عيصا من أعياص خلفاء بني عبد المؤمن ضعيف المنبه خاسر الصفقة من مواهب الحظ وهو اسحق أخو المرتضى وبايعوه سنة تسع وستين وستمائة يرجون منه رجع الكرة وأدالة الدولة وكان المتولى لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطوش.
ولما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش لم يقدم عملا على محاربتهم وتخذيل الناس عنهم واستمالة أشياعهم وجمعوا له سنة أربع وسبعين وستمائة على غزة ظنوها فأوقع بهم وفل من غربهم ثم صمد إلى الجبل لشهر ربيع من سنته فافتض عذرته وفض ختامه واقتحمه عليهم عنوة بعد مطاولة النزال والحرب وهلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة وتقبض على خليفته المتستضعف وابن عمه أبي سعيد ابن السيد أبي الربيع ومن معهما من الأولياء وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة بمراكش فضربت أعناقهم وصلبت أشلاؤهم وكان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي وأولاده وعاثت العساكر في جبل تنما واكتسحت أمواله وبعثرت قبور خلفاء بني عبد المؤمن واستخرج شلو يوسف وابنه يعقوب المنصور فقطعت رؤوسهم وتولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته ومواطن انتزائه كما قدمناه وكان السلطان أقطعه بلاد أغوات إكراما لوفادته فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر ورأى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم والعيث بأشلائهم لما نقم منه الموحدون وأزعجوه من قراره فنكرها السلطان لجلاله وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره وعدها من هناته.
ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة وقطع دابر بني عبد المؤمن فتظاهر السرور لديه وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه ولما سكن غرب الثوار وتمهد أمر المغرب ورأى أمير المسلمين أن أمره قد استفحل وملكه قد استوسق واتسع نطاق دولته وعظمت غاشيته وكثر وافده رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه وشرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع وسبعين وستمائة هذه وجمع الأيدي عليها وحشد الصناع والفعلة لبنائها وأحضر لها الحزى والمعدلين لحركات الكواكب فاعتاموا في الطولع النجومية مما يرضون أثره ورصدوا أوانه وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطان وأبو عبد الله بن الحباك المقدمان في الصناعة فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي ونزلها بحاشيته وذويه سنة أربع وسبعين وستمائة كما ذكرناه واختطوا بها الدور والمنازل وأجرى فيها المياه إلى قصوره وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة فشرع في بنائها من سنته وكان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة فأغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة وحسم الداء من خروجه واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي اتحفه بها بين يدي غزاته وكان شغله عنها أمر الجهاد فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش وحكمات مموهة بالذهب والفضة وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج والنسوانية من الولايا وأحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه وفي سنة خمس وسبعين وستمائة من بعدها أهدى له محمد بن عبد القوي أمير بني توجين وصاحب جبل وانشريش أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة ورأى أنها على قلة عددها أحفل هدية وفي نفسه أثناء هذا كله من الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما نذكر.

.الخبر على إجازة أمير المسلمين ثانية وما كان فيها من الغزوات:

لما قفل أمير المسلمين من غزاته الأولى واستنزل الخوارج وثقف الثغور وهادى الملوك واختط المدينة لنزله كما ذكرنا ذلك كله ثم خرج فاتح سنة ست وسبعين وستمائة إلى جهة مراكش لسد ثغوره وتثقيف أطرافه وتوغل في أرض السوس وبعث وزيره فتح الله السدراتي بالعساكر فجاس خلاله ثم انكفأ راجعا وخاطب قبائل المغرب كافة بالنفير إلى الجهاد فتباطؤا واستمر على تحريضهم ونهض إلى رباط الفتح وتلوم بها في انتظار الغزاة فثبطوا فخف هو واحتل بطريف آخر محرم ثم ارتحل إلى الجزيرة ثم إلى رندة ووافاه هنالك الرئيسان أبو اسحق بن أشقيلولة صاحب قمارش وأبو محمد صاحب مالقة للغزو معه وارتحلوا إلى منازلة أشبيلية فعرسوا عليها يوم المولد النبوي وكان بها ملك الجلالقة ابن أدفونش فخام عن اللقاء وبرز إلى ساحة البلد محاميا عن أهلها ورتب أمير المسلمين مصافه وجعل ولده الأمير أبا يعقوب في المقدمة وزحف في التعبية فأحجروا العدو في البلد واقتحموا أثرهم الوادي وأثخنوا فيهم وباتت العساكر ليلتهم يجادون في متون الخيل وقد أضرموا النيران بساحتها وارتحل من الغد إلى أرض الشرط وبث السرايا والغوازي في سائر النواحي وأناخ بجمهور العسكر عليها فلم يزل يتقرى تلك الجهات حتى أباد عمرانها وطمس معالمها ودخل حصن قطيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنوة وأثخن في القتل والسبي ثم ارتحل بالغنائم والأثقال إلى الجزيرة لسرار شهره فأراح وقسم الغنائم في المجاهدين ثم خرج غازيا إلى شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها وأذاقها نكال الحرب وأقفر نواحيها وقطع أشجارها وأباد خضراءها وحرق ديارها ونسف آثارها وأثخن فيها بالقتل والأسر وبعث ولده الأمير أبي يعقوب في سرية من مسعكره للغوار على أشبيلية وحصون الواد فبالغ في النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطير ثم صبح إشبيلية بمقاره فاكتسحها وانكفأ إلى أمير المسلمين فقفلوا جميعا إلى الجزيرة وأراح وقسم في المجاهدين غنائمهم ثم ندب إلى غزو قرطبة ورغبهم في عمرانها وثروة مساكنها وخطب بلادها فانعطفوا إلى إجابته وخاطب ابن الأحمر يستنفره وخرج لأول جمادى من الجزيرة ووافاهم ابن الأحمر بناحية أرشدونة فأكرم وصوله وشكر حفوفه إلى الجهاد وبداره ونازلوا حصن بني بشير فدخلته عنوة وقتلت المقاتلة وسبيت النساء ونفلت الأموال وخرب الحصن ثم بث السرايا والغارات في البسائط فاكتسحها وامتلأت الأيدي وأثرى العسكر وتقروا المنازل والعمران في طريقهم حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها وانحجرت حامية العدو من وراء الأسوار وانبثت بعوث المسلمين وسراياهم في نواحيها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها واكتسحوا قراها وضياعها وترددوا على جهاتها ودخل حصن بركونة عنوة ثم أرجونة كذلك وقدم بعثا إلى حيانة قاسمها حظها من الخسف والدمار وخام الطاغية عن اللقاء وأيقن بخراب عمرانها وإتلاف بلده فجنح إلى السلم وخطبه من أمير المسلمين فدفعه إلى ابن الأحمر وجعل الأمر في ذلك إليه تكرمة لمشهده ووفاء بحقه وأجابهم ابن الأحمر إليه بعد عرضه على أمير المسلمين والتماس إذنه فيه لما فيه من المصلحة وجنوح أهل الأندلس إليه منذ المدد الطويلة فانعقد السلم وقفل أمير المسلمين من غزاته وجعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان ابن الأحمر وخرج له عن الغنائم كلها فاحتوى عليها ودخل أمير المسلمين إلى الجزيرة في أول رجب من عامئذ فأراح ونظر في ترتيب المسالح على الثغور وتملك مالقة كما نذكره.